إنّ الذي دفع المؤلف ـ قدس سره ـ أن يبذل هذا الجهد الکبير لتأليف هذا الکتاب هو وجود النقص في کتب فنّ الرجال وفنّ تميز المشترکات ووقوع العلل في الأسانيد.
قال ـ رحمه الله ـ يصف النقص الموجود في کتب فنّ الرجال:
«إهمالها ذکر کثير ممن تضمّنته الأسانيد من الرواة، وعدم تعرضها ـ في تراجم من ذکر فيها منهم ـ لبيان طبقته وشيوخه الذين روي عنهم وتلامذته الذين تحمّلوا عنه».
وقال يصف النقص الموجود في کتب تمييز المشترکات:
«لم يبحثوا فيها عمّا هو موضوعها، وهو أسانيد الروايات بأشخاصها، بل استقرأوها استقراء ناقصاً، کل حسب وسعه».
وأشار إلي العلل ا لتي طرأت الأسانيد وأسباب ذلک ثم قال:
«ولم أجد لعلمائنا بحثاً في هذه الجهة، إلا القليل منهم في ما علّقوه علي کتب الحديث، فإنّهم ذکروا في ضمنها قليلاً من تلک العلل، وبحثوا فيها نحو البحث في تمييز المشترکات(1)».
وفي هذا الفصل نتحدّث عن بعض هذه النواقص وعن بعض هذه العلل، وذلک تأکيداً لما قاله المؤلّف ـ قدس سره ـ في هذه الجمل الثلاث.
1ـ کتب الرجال
إنّ الاصول الرجالية الأربعة ـ وهي: الفهرست للشيخ الطوسي، وکتاب الرجال له، واختيار الکشي أيضاً له، ورجال النجاشي ـ قد دوّنت لأغراض معينة، لا لتأمين کل حاجات الباحث في هذا الفنّ.
أما «الفهرست» فقد خصّصه مؤلّفه لذکر أصحاب المصنّفات والاصول(2).
وکان ـ رحمه الله ـ قد ضمّنه تراجم لنحو تسعماءة منهم، مع ذکر طرقه إلي کتبهم، وقد ذکر فيه بشأن عدد قليل منهم عبارات تنصّ علي الجرح أو المدح أو التعديل.
وأما «کتاب الرجال»، فقد جمع فيه أسماء الرجال الذين رووا عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وعن الأئمة ـ عليهم السلام ـ من بعده إلي زمن القائم ـ عليه السلام ـ ، ثمّ ذکر من تأخّر زمانه عن الأئمة ـ عليهم السلام ـ من رواة الحديث ومن عاصرهم ولم يرو عنهم ـ عليهم السلام(3) ـ ، وقد ذکر فيه بعض النصوص في جرح أو تعديل قليل منهم.
وأما «اختار رجال الکشي»، فقد اختاره المؤلف من «معرفة الرجال» للکشي، وقد جاء فيه بشأن مجموعة من الرواة ما يستدّل به علي ضعف أو تعديل الراوي، أکثره أحاديث منقولة يتوقف الأخذ بها علي معرفة أحوال رواتها، وربّما تتعارض بعضها مع بعض، فيتعسّر الترجيح(4).
وأما «رجال النجاشي» فقد ألفه أحمد بن علي النجاشي ردّاً علي من زعم من المخالفين أنّ الشيعة لا سلف لهم ولا مصنّف، کما جاء في مقدمة المؤلف للکتاب(5)، ترجم المؤلف فيه لمن له تصنيف من الرواة وغيرهم، وقد بلغ عددهم ألفاً ومائتين وتسعة وستين شخصاً(6).
هذا مجمل الکلام في هذه الاصول الأربعة، نستطيع أن نعرف منه أنّ تأليف هذه الکتب إما لذکر أصحاب المصنّفات والاصول أو لمعرفة من روي عن المعصومين ـ علهيم السلام ـ ، او الاطلاع علي جرح أو تعديل بعض الرواة، وأين هذا مما يحتاجه الباحث في هذا الفنّ من معرفة الأسانيد وتمييز المشترکات والعلل الواقعة في الأسانيد؟
إنّ ما جاء في هذه الاصول قد تکفّلت تأمين بعض الجوانب من هذه الحاجة الکبيرة، وبقيت جوانب اخري من هذه الحاجة تفرض علي الباحث في هذا الفنّ أن يصرف قسطاً کبيراً من عمره في تأمينها.
علي أنّ من ألف بعد هذه الاصول کان قد اعتمدها، حيث لم يجد في غيرها ما وجده فيها، وهکذا اعتمد التالي علي السابق وإن کان فصّل وزاد علي ما أخذه، لکن طبيعة هذه الکتب ومحدوديتها قد فرضت علي الباحث أن يتحرّک في إطار معين متقلّداً حکم من سلف.
وکان سيدنا المؤلف ـ قدس سره ـ ممن عرف حاجة الباحث في هذا الفنّ بکل جوانبها، وعرف أيضاً بأي طريقة يسدّها، فقام بهذا المهمّ. وعوداً علي البدو نقول إنّ النقص في الکتب الرجالية يتّضح أکثر عندما نعرف أنّ کثيراً من الرواة الذين جاءت رواياتهم في الکتب الحديثية لم يذکروا في کتب الرجال، وأنّ الکتب الرجالية قد ترجمت لمجموعة من الرجال ليست لهم روايات، وبعبارة اخري أنّ المنطقية بين من ترجم له في الکتب الرجالية وبين رواة الکتب الحديثية هي کنسبة العموم والخصوص من وجه.(7)
2ـ کتب تميز المشترکات
کانت الحاجة إلي معرفة فنّ المشترکات تظهر بوضوح عند ما کان الباحث يجد اسماً مشترکاً يطلق علي عدة من الرواة، ولا يجد في الکتب الرجالية ما يستعين به علي تعيينه وتحديده بالضبط.
ومن هذا المنطلق قد اهتّم بعض الأعلام بالتأليف في هذا الفنّ، منهم المولي محمد الاسترآبادي المتوفي 1094،هجری فإنّه ألّف «المشترکات في علم الرجال(8)»، ومنهم فخرالدين الطريحي، فإنّه قد خصّص الباب الثاني عشر من کتابه «جامع المقال» بهذا الموضوع، ومنهم المولي محمد أمين الکاظمي، فإنّه ألّف کتابه «هداية المحدّثين إلي طريقة المحمدين»، ويطلق عليه: «مشترکات الکاظمي».
وجاء من بعدهم المولي محمد بن علي الأردبيلي المتوفي 1101هـ .
وألّف کتابه «جامع الرواة وإزاحة الاشتباهات عن الطرق والإسناد(9)»، وإن کان هذا الکتاب يعدّ من الکتب الرجالية إلا أنّ المؤلّف ـ رحمه الله ـ قد زاد فيه علي ترجمة الراوي أسماء مشايخه الذين روي عنهم وأيضاً أسماء من رووا عنه، وذلک استناداً علي رواياتهم في الکتب الحديثية. لکن هذه الکتب هي کما وصفها سيدنا المؤلف: «لا تغني من غرضها شيئاً(10)»، لأنّ ما حصل عليه أصحاب هذا الفنّ لم يکن بحجم الحاجة ولا علي مستوي المطلوب.
علماً أنّ دور کتب فنّ تمييز المشترکات هو دور الوسيط بين الکتب الحديثية وبين الکتب الرجالية، وقد وضعها أصحابها ليستعين الباحث بها في معرفة المقصود من الاسم الذي يطلق علي أکثر من واحد، ومن ثمّة معرفة حاله في کتب الرجال.
إنّ تمييز المشترک يستلزم الاستقراء التام للأسانيد وعلاج المعلول منها، وکان سيدنا المؤلّف ـ قدس سره ـ بمنهجه في هذا الکتاب قد تکفّل بهذا المهم وملأ هذا الفراغ باسلوب لم يسبقه إليه أحد.
3ـ العلل الواقعة في الاسانيد
لا شک أنّ مجموعة من الأسانيد قد طرأت عليها العلل، وإذا لم ينتبه إليها الباحث أو انتبه إليها لکن لم يعرف کيف يعالجها لما تمکّن من الاطمئنان إلي سلامة السند، ومن ثمّة الحکم عليه وتحديد نوعه.
وقد ذکر أصحاب هذا الفنّ أنواعاً من العلل قد وقعت في مجموعة من الأسانيد. ومن هذا المنطلق قد شرط علماء الدراية في قبول الرواية اموراً، منها «الضبط(11)».
وکان الشيخ حسن صاحب المعالم ـ قدس سره ـ ممن قام بهذا المهمّ، ونبّه في کتابه «منتقي الجمان» علي کثير من الأسانيد المعلولة ونقّحها، وبين الصواب فيها، وعلي کتابه هذا قد اعتمد المولي محمد أمين الکاظمي في تأليفه «هداية المحدّثين» وألّف شيخنا المجلسي کتابيه «مرآة العقول» و «ملاذ الأخبار» وضمّنهما فوائد کثيرة تعين الباحث في معرفة هذا المهمّ.
وهکذا عمل من جاء من بعدهم حتي اجتمعت کمية کبيرة من المعلومات بهذا الشأن، لکن بقيت مجموعة اخري من الأسانيد المعلولة لم يعرف وجه الصواب فيها.
وکان سيدنا المؤلف ـ قدس سره ـ ممن اقتقي هذا الأثر، وتابع هذا المسير، فتوصّل بمنهجه البديع في تأليف الکتاب إلي تصويبات قيمة، هي حقاً کما وصفها: «کالقضايا يا التي قياساتها معها(12)».
وفي ما يلي نذکر أنواعاً من هذه العلل ونبحث عن الأسباب في قوعها.
1ـ التصحيف، للتصحيف أشکال مختلفة:
منها: التصحيف في الاسم، وهذا يقع ـ غالباً ـ في الأسماء القريبة في الرسم، مثل: «بريد، زيد، مزيد، يزيد» و «بکر، بکير» و «جعفر، حفص» و «الحسن، الحسين» و «سعد، سعيد» و «عبدالله، عبيدالله» و «عتبة، عقبة، عيينة» و «علي، عيسي» و «فضل، فضيل، مفضّل» و «نصر، نصير» و «هاشم، هشام» و «يوسف، أيوب» وما شاک(13).
ومنها: التصحيف في الواسطة، وهذا يقع ـ غالباً ـ بتصحيف «عن» بـ «بن» و «بن» بـ «عن»، والأول يسبّب الواسطتين واسطة واحدة، والثاني يسبّب عد الواسطة الواحدة واسطتين.
ومنها: التصحيف في الطريق، وهذا يقع ـ غالباً ـ بتصحيف «و» بـ«عن» و «عن» بـ«و»، والأول يسبّب زيادة الواسطة وعأّ الطريقتين طريقاً واحداً، والثاني يسبّب نقص الواسطة وعدّ الطريق الواحد طريقين.
2ـ القلب، وهو تارة يقع في الاسم، وأخري في الواسطة، والأول يقع ـ غالباً ـ في الاسم الثنائي المتکرّر في الواسطة، والأول يقع ـ غالباً ـ في الاسم الثنائي المتکرّر في الأسانيد الکثيرة، فيسبق الذهن القلم، مثل قلب «أحمد بن محمد» بـ«محمد بن أحمد» و «الحسن بن علي» بـ«علي بن الحسن».
والثاني ـ أي القلب في الواسطة ـ أقل وقوعاً من الأول، مثل أن يکتب اسم الراوي بعد اسم شيخه، فيوهم أنّ طبقته أقدم من طبقة شيخه.
3ـ الزيادة، وهي ـ غالباً ـ تقع في تکرار الاسم سهواً، فيتخيل أنّ الاسمين عبارة عن شخصين، وتقع أحياناً بفصل اسم الشخص عن کنیته بـ«عن»، فيوهم أنّ الکنية لشخص آخر.
4ـ النقص، وقد وقع في کثير من الأسانيد، فعدّت هذه الأسانيد معلولة، وقلّ من ينتبه إليها، ومن أسباب وقوع النقص:
1ـ سهو النسّاخ واستعجالهم، حرصاً علي الاستفادة من الوقت.
2ـ سهو بعض المؤلّفين من حملة الحديث.
توضيح ذلک: کان دأب بعض أصحاب الاصول والکتب القديمة في جمع الحديث وتدوينه هو أن يذکروا تمام السند في أول حيث يکتبونه، ثم يجملون السند في باقي الأحاديث اعتماداً علي ما فصّلوه في سند الحديث الأول.
وقد حصل بعض من تأخّر عنهم علي بعض هذه الاصول والکتب، فاختار منها مجموعة من الأحاديث، ونقلها کما وجدها، من دون أن ينتبه أنّ أسانيدها مجملة، فوزّعها علي أبواب متعددة من کتابه، فصارت مرسلة، وذلک بسبب ما سقط منها من الوسائط التي ذکرت في السند الحديث الأول.
3ـ نسيان بعض أصحاب الاصول والکتب.
إنّ بعض الأسانيد قد طرأ عليها الإرسال من يوم تأليفها، وأنّ أصحاب الاصول والکتب کانوا قد نسووا الواسطة فکتبوا السند ناقصاً، ولم ينتبهوا إلي ذلک.
علماً بأنّ وقوع النقص بالسبب الأول والثاني أهون من وقوعه بالسبب الأخير، لأنّ ما وقع بسببها يمکن علاجه بالبحث والتفتيش عن النظائر والقرائن والشواهد والاستعانة بها، بينما ما وقع بالسبب الأخير ليس کذلک، ويبقي السند معلولاً لا علاج له.
يعرف مما ذکرناه أنّ السبب الذي فرض نفسه علي سيدنا المؤلف ـ قدس سرّه ـ أن يندفع إلي انجاز هذ المهمّ ويکرّس جهده في تأليف هذا الکتاب هو وجود نواقص في کتب فنّ الرجال وفي کتب فنّ تمييز المشترکات، مع وقوع علل في الأسانيد مما يعرقل علي الباحث طريق الوصول إلي معرفة الأسانيد وتحديد نوعها.
………………………………………………………………………………..
1- ترتيب أسانيد الکافي، ص 108، مقدّمة الکتاب.
2- راجع مقدمة المؤلف لکتاب الفهرست هذا، ص 2.
3- راجع مقدمة المؤلف لکتاب الرجال هذا، ص 2.
4- وللمزيد راجع کتابنا المعجم الموحّد، ج 1، ص 27ـ29.
5- راجع رجال النجاشي، ص 3.
6- بشأن هذا الکتاب ومؤلفه راجع کتابنا مشيخة النجاشي.
7- إنّ النسب الأربع المنطقية هي في المفاهيم الکلية في المصاديق، وإنّما شبّهنا هايت النسبتين بالعموم والخصوص من وجه تقريباً للذهن لا أکثر.
8- راجع الذريعة، ج 1، ص 40.
9-. طبع هذا کتاب عام 1331 شمسية بطهران في مجلّدين، وذلک بأمر من السيد المؤلف ـ قدس سره ـ وبتقديم منه للکتاب، وکان نجله السيد محمد حسن البروجردي قد کتب هذه المقدّمة.
10- ترتيب أسانيد الکافي، ص 108.
11- للمزيد راجع معارج الاصول، ص 151، الدراية، ص 65، معالم الاصول، ص 151.
12- ترتيب الأسانيد، ص 109.
13- إنّ معرفة الأسماء القريبة في الرسم تجعل الباحث أن يفتّش في کتب الرجال في أکثر من مورد، حتي يحصل علي مطلوبه.